عبق الماضي / مساعد سعيد المانع ( رحمه الله )
عبق الماضي الكاتب : مساعد سعيد المانع
في أفلام الخيال العلمي يمتطي المكتشفون ما يسمى (آلة الزمن) حيث باستطاعتهم العودة إلى الماضي أو الذهاب إلى المستقبل بناء على قانون فيزيائي يقول ( أن المادة لا تفنى ولا تستحدث ) ولأنني كغيري مشدود إلى الماضي فسآخذكم في أول إطلالة من هذا المنفذ الإعلامي الوليد إلى الزمن الجميل إلى مايقارب ستين سنة مضت لنطل سويا على وضع الأسرة الممتدة آنذاك في مجتمعنا القروي الصغير ونرصد التحولات التي طرأت عليها في سياقها الاجتماعي ومقدار تأثرها بالسياقات الأخرى .
في الأمثال المصرية ( اللي ما عنده كبير يشتري له كبير ) وفي الماضي كان لكل أسرة (كبير ) يتولى شئونها ويدبر أمورها يأمر فيطاع ويتحدث فيسمع له ، وبقدر حسن إدارته وطاعة الآخرين له يتحدد وضع الأسرة بين الأسر الأخرى ، كما تتحدد شخصيتها من مصادر دخلها ـ زراعي ، رعوي ، تجاري ، الخ ـ وإذا كان عدد أفراد الأسرة كبيرا فإنهم يمارسون جل هذه الأعمال لكنهم يتميزون في مجال واحد يطبع شخصياتهم كما يكون لكبيرهم دور أساسي في توجيههم وحل مشاكلهم مع بعضهم البعض أو مع الآخرين .
حين يأتي المساء يعود الجميع إلى المنزل وبعد أداء صلاة المغرب يتحلقون حول مائدة العشاء وما أن ينتهون من الطعام حتى يبدأ كبير الأسرة في توزيع المهام لليوم التالي ولم يكن يفرق عند إسناده لتلك المهام بين الذكور والإناث فالجميع لابد أن يعمل لأن تماسك الأسرة وبقائها مرهون بقدرة أعضائها على القيام بما هو مطلوب يوميا على أن لكل شريحة سنية ما يناسبها من المهام . لذلك فان الطفل يجبر على التخلي عن طفولته منذ سن الخامسة حيث يجب عليه ملازمة أحد الكبار ليقوم بدور ما فإذا ما أتقنه كسب استقلالية وتفرد يدخلانه عالم الكبار.
يبدأ يومهم في ذلك الزمان باكرا وعادة قبل أذان الفجر حتى إذا ما صلوا الفجر امتطوا أشعته منطلقين إلى أعمالهم في الحقول أو في المراعي ـ غالبا ـ حتى ليخيل إليك وأنت تسمع جلبتهم بأن هذا جيش جرار وليسوا مزارعين أو رعاة يمارسون بروتينية عملهم اليومي فحسب ، ويستمر هذا الحال في ساعات الصباح الأولى ، وقبل أن ترمض الفصال تتغير الإيقاعات فهنا لا تسمع ولا ترى إلا مزارعا يتمايل خلف سانيته يحثها على العمل ويتحدث معها كما يتحدث مع أصحابه غناء وشدوا ، أو امرأة تتمنطق بإرادة فولاذية مبدية قوة وجلدا على أداء الأعمال مهما كانت شاقة أو عسيرة أو عصفورا جذابا يخاتلك ليغتسل حيث انسكاب المياه في الفلجان والجداول تارة أو لائذا بالطين يفتش عن طعامه تارة أخري ، وإذا كنت محظوظا فانك قد تستمع إلى عزف موسيقي مصدره المزروعات الملتفة من الذرة والحنطة حين تداعبها النسمات فيحيي كلا منهما الآخر .
أما في المراعي فهناك صورة أخرى فالنأي والبندقية هما رفيقا الراعي أما إن كانت ( راعية) فرفيقاها صوتها وقوة شخصيتها ـ ما أقوى نساء ذلك الزمان ـ حين يصبح الرعاة معا يكونون أسرة أو عدة أسر حسب عددهم وكثرة ماشيتهم لكن يقوم عليهم أدناهم ويسيجون أنفسهم تجاه الغر باء ويدافعون عن الحمى ويفتعلون المشكلات أحيانا لإظهار قوة شوكتهم وقدرتهم على الدفاع عن حماهم ، و إذا خلا الراعي بنفسه وبأغنامه فهناك لغة من التخاطب لا يتقنها إلا الرعاة ـ كما يقول الشابي ـ فهو يسمي كل واحدة باسمها وينادي عليها ويعطيها الأوامر فتطيع وتغلبها رغبتها فتتمرد أحيانا ، فإذا ما استقرت له الوجهة وبلغ ذروة الضحى عزف نأيه فجاوبه الآخرون وتفاعلت معهم الشعاب ورددت الصوت صدى عذبا متماهيا مع صفاء نفوسهم التي يملأها الحبور .
الم يكن هؤلاء القوم يتسامرون ؟ بلى . كانوا يتجمعون في ليالي الخريف الطويلة تحت ضوء القمر فإذا تعذر فحول سراج ذابل .. وفي بيت أحدهم يحتسون القهوة التي يتشاركون في إحضارها وفي الغالب كان التجمع للرجال لأن لدى النساء مهام في الدار لم تنجز فيغتنمن الوقت لإنجازها .... نسيت أن أقول أن من المهام التي يوزعها كبير الأسرة كل مساء مهمة مساعدة جار أو قريب أو من طلب مساعدة من أهل القرية .
الدور كانت مصانع مصغرة للإنتاج فمعظمها كان بها مصنع للحلج والنسيج ، كما كانت الحقول تدر دخلا يكفي حاجة الأسر ويفيض حيث كان يباع في الأسواق المحلية بل يصل إلى ساحل تهامة والى الطائف ولو كنت مقيما في مكة المكرمة ذلك الزمان فان عينك لن تخطئ رؤية حمول جمال غامد في المناخ تسيرها إرادة الله لتحقيق مقتضى دعوة إبراهيم عليه السلام ( رب اني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فأجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) ، وبهذا تكون الأسر في ذلك الزمان قد حققت الاكتفاء الذاتي من إنتاجها قبل أن يعرف أفرادها النظريات الاقتصادية الحديثة بل كانت نظريتهم تكمن في قولهم: ويل لناس يأكلون مما لا يزرعون ويلبسون ما لا يصنعون .
كانت علاقاتهم الاجتماعية أشبه بمعاصيرهم الرملية عالية سريعة الدوران لكن في نفس المكان ، يختلفون كثيرا ويصرخون عاليا ويتفنون في إدارة الخلاف بينهم إلا أن ذلك لا يدوم طويلا لأنهم يلتقون كل يوم أكثر من مرة ولا بد من رد السلام لأنه من فطرة الدين ـ كما كانوا يرددون ـ ولأن الحاجة تلجئهم للتسامح مع بعضهم البعض ولقد اخترعوا لذلك مقولتهم الشهيرة : (ما لحاجة تعمل على الجمل) . لأنهم كانوا يعتقدون أن الجمال لم تخلق لحرث الأرض وريها لكن عند الحاجة لا بأس من أن تقوم ذلك .
مجتمع ذلك الزمان وفق التصنيفات العلمية في الدراسات الاجتماعية كان يعد من المجتمعات شبه الحضرية وكما قلنا سابقا كان هذا المجتمع يقوم على الأسرة الممتدة التي طبقت الاشتراكية باكرا ـ عن غير معرفة ـ ( فالواحد للكل ) ، وقد كان لوقوع القرية على تقاطع الطرق بين الشرق والغرب والشمال والجنوب أثر كبير في قدرة أفرادها على ممارسة التغيير وقبول الآخر وقبول الأفكار وتبنيها حيث كان يمر بها الغادين والرايحين مشيا على الأقدام أو على دوابهم إلى الأسواق طيلة أيام الأسبوع كما كان يمر بها الطريق الواصل بين البادية وساحل تهامة وتحديدا (المخواة) المنفذ الساحلي المتاح لتبادل المنتجات والبضائع كما كان يمر بها طريق العصبة (حج اليمن ) والذين أثروا في الحياة الثقافية والاجتماعية والدينية بشكل أو بآخر ، كل هذا الحراك مكن تلك الأسر من قبول التخلي عن المهام التي كان أبناؤها الصغار يؤدونها وإلحاقهم بركب التعليم سواء كان ذلك في الكتاب سابقا أو المدارس النظامية حين أنشئت وكان ذلك إيذانا بالتحولات الباهظة التي حدثت للأسر خاصة وللمجتمعات شبه الحضرية عامة حيث حلت الدخول الوظيفية ( رق القرن العشرين كما يقول العقاد ) محل عائدات الإنتاج الزراعي والحيواني وبشكل مجزي ، وتشظت الأسرة وتحولت من الممتدة إلى النووية التي أصبحت سمت المجتمعات الحضرية الحديثة حيث تقتصر الأسرة على الزوج والزوجة والأبناء وما تلى ذلك من تأثيرات أتركه لفطنة القارئ ومشاهداته اليومية .
صورة : من شعر المفكر على الدميني
فأقم ياصديقي على باب برزخك الرحب
واكتب لنا
عن صبي ٍ تحزّم بالحبل "في وسطه ِ" باكراً،
ومضى " للصرام "
وعن امرأة ٍ تحتفي بأنوثتها حين يأوي الحليل إليها،
وترفع "مشعابها" حين يحمى الخصام